الخلطة السردية السحرية في قصة الكاتب المغربي هشام ناجح: ( مملكة القطط )

محمد الطايع
عزيزي القاريء..
سوف أكشف لك اليوم، سر خلطة سردية عجيبة، وأحدثك عن وصفة سحرية خاصة بفن الكتابة. إن كنت تهوى الأدب أو تؤمن بقيمته الحضارية.
هذه الوصفة، صنعت هناك في فرنسا، في معمل الأدب السردي الخاص بالكاتب المغربي الجاد والمجدد، هشام ناجح.
هشام ناجح، روائي كبير، ومن كبره شأنا وإبداعا.. طول نفسه السردي وعمق غوصه المجازي في عوالم الحكي، بموسوعية فريدة ساهمت مباشرة في إنتاجه نصوصا سردية عملاقة، والتي لا تقل عنها سيرته المدهشة التي لا تشبه غيرها، تلك السيرة التي سأخصها إن شاء الله بنص مستقل، فأذكر من مؤلفاته روايته الملحمية : ( الشجعان ) التي آخى من خلالها قلبه مع فضيلة العرفان الصادق العلني، للوطن والهوية الأم، ورواية ( حديث الوجوه المائلة ) التي عرى بمشراطها التحليلي ببراعة “فرويد” نفسه، أغوار النفس البشرية، وصراع الهوية الجنسبة بين الشرق والغرب، ثم إلى رواية : ( دوار الكية ) التي ناطح من خلال فصولها المثيرة، أكثر روايات العالم جرأة ونزوحا نحو أقاصي الكشف عن غرابة الكائن المهمش.
في واحدة من حواراته الصحفية، أعلن الأديب هشام ناجح، أن من الصعب أن يبرع كاتب في جنس القصة القصيرة والرواية معا، ثم ضرب مثلا بغلبة القصة على الرواية في أدب ‘خوليو كورتازار” وغلبة الرواية على القصة في أدب “ماركيز ” إعلان كهذا يبدو للوهلة الأولى حاسما، لكن من ذا يحسم في نظريات الأدب؟ من ذا يزعم الاكتفاء والوقوف على حافة المعنى النهائي، والغاية القصوى من الكتابة؟ من يجرؤ ؟ بمعنى أن تلك كانت مجرد لفتة تواضع من كاتبنا، حتى لا يسابق الريح ويكرر مأساة “دون كيشوت”، هو الذي لا يسابق أحدا غيره، وليس له خصم في ساحة الإبداع سوى هشام ناجح نفسه، الذي لا يفكر في تحدي أحد غيره، وهذه صفة خاصة بالمبدعين الحقيقين، الذين لا يقارنون أنفسهم بغيرهم، هذا ولا يتوانى كاتبنا عن تجربة خوض غمار جنس القصة القصيرة أيضا، والشاهد قصصه القصيرة المنشورة في كتاب بعنوان ( وشم في السعير )، وقصصه الجديدة التي صنفتها ضمن أدب الأفكار، والتي لا تشبه قصصا أخرى في أي كتاب آخر.
من البديهي أنك، وأنت تفكر في كتابة شيء مختلف، لا بد أن تخصص للكتابة وقتا أطول من المعتاد، ثم لا تشهد لنفسك بالبراعة، ما دمت تجتهد في حقل التجريب، عليك أن تترك مهمة تقبيم ما تكتبه للقراء. كمثل هذا النموذج الذي أتدبره الآن باعتباري قارئا، وأرى أنه من ذلك النوع المختلف. والأمر هنا يتعلق بقصة ( مملكة القطط ) التي عبر عن إعجابه بها كثير من قراء كاتبنا، لكنني لم أصادف بعد، من حاول فك ضفائرها، ومحاورة غموضها الظاهر، وتدبر ما جاءت به تحمله.. هذه القصة البكر الولود من شيفرات ورسائل.
حسنا.. إنها قصة قصيرة عن السحر، وهي أيضا عريضة عرفان بأهمية القطط في حياة البشر، تلك القطط في مقام لاحق من النص السردي، سوف تنوب عن البشر أنفسهم، لكن قبل أن نصل إلى هناك، أود أن أبدأ من البداية، ومع نص إبداعي أراه أشبه بصك ضد الغفران، ذلك الغفران الذي كان يوهب بمقابل مادي، خاصة من خلال بعض النصوص الشعرية التي تجيز الكثير من السقطات المنطقية، دون ذريعة فكرية مقنعة، وكأن المشهد سوق مفتوح، لمن يريد الحصول على براءة مطلقة من خطاياه. مثل خطية الكذب والزنا، وتزوير الحقائق.
هناك في جنوب شرق العالم، في قلب مدن الاتحاد الهندي وضواحيها، والشرق كما هو معلوم، مزدحم جدا بالديانات السماوية والأرضية والفلسفات الغامضة، شأنها شأن أنواع السحر الأرضي والسماوي، فنعلم أن من جوهر تلك الديانات، تخلق المنافسة، وفكرة الاستحواذ على إيمان الأغلبية، فنرى في مستهل القصة كيف تخطط الكنيسة، بتفويض من بابا الفاتيكان، لاستعادة هيمنتها على قلوب المؤمنين، مخافة الطقوس البوذية، وآذان الصلوات الخمس التي تعلن استمرار الإسلام في نفوس حشود مشاعر أتباعه، واستقطابه لقلوبهم بكامل خشوعها، وكأن المسألة تتعلق بحرب باردة، نصف تمثلاتها ظاهر الممارسة، ونصفه يعمل في الخفاء.
لمن الغلبة إذن؟ مادمت الرغبة والتخطيط الديني يستهدفان القلوب قبل العقول؟ وهل كان السحر بمنأى عن كل هذا؟ سؤال بمثل هذا الالتباس سوف يتطوع للإجابة عنه الكاتب هشام ناجح، من خلال قصته ( مملكة القطط ) فيذكرنا إن كنا من الغافلين أو من الذين يتذكرون، أن النبي موسى عليه السلام، قارع السحرة بأمر من فرعون، والنبي سليمان عليه السلام برأه القرآن الكريم من تهمة السحر، ثم نسبه للملكين ببابل هاروت وماروت، مؤكدا ، ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) مثلما جعل موسى هو الأعلى من قبل، مؤكدا أنه ( لا يفلح الساحر حيث أتى ) ونبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اختلفت الرويات في مسألة تعرضه للسحر، جعل الله له دون السحر عصمة آيات محكمات مبطلات عمل السحر. ثم نتفق على خلاصة مفادها، أن السحر الذي قال عنه رب العزة والجلال ( يفرقون به بين المرء وزوجه ) يعتقد الكثير من ممارسيه، أن بإمكانه الجمع بين قلوب المحبين ما دام قادرا على التفريق بينهم. وذلك ما يسمى ب( سحر الجلب ).
في قصته القصيرة ( مملكة القطط )، يريد هشام ناجح أن يقول كلمته في هذه المسألة، وهي كلمة ليست تقريرية، لأنها تحرج من بين أكمام ساحر مختص في فن السرد، كما أنها ليست دينية ولا تثقيفية، مع أنها تتضمن كما هائلا من المعلومات، حول الثقافات والأخبار العالمية، خاصة في مطلع القصة، والقصة ضرب من السرد، والسرد ممارسة لغوية بالدرجة الأولى، والكاتب هشام ناجح، يعتبر نفسه كائنا لغويا، وباللغة وحدها ينظر للعالم، والشاهد : أسلوبه السردي الذي يمتاز بالقوة، والمتانة والترابط، وأصالة الكلمات وجدية الخطاب، حتى في حال نزوع نص ما للطرافة، أو ” الفانتاستيك “، لا يتنازل هذا المبدع عن حرفيته المتطرفة انحيازا للدلالات اللغوية الأصيلة نحوا وبلاغة فيكتب سرده كما هو مثبت في جميع نصوصه، بأسلوبه السردي الشبيه بالبنيان المرصوص. ثم ومن خلال آليات الاشتغال هذه، يأتي فعل السرد، والسرد هنا في قصة ( مملكة القطط )، له غايات ظاهرة وأخرى خفية، الحبكة الطريفة كغاية معلنة، والقيمة الأخلاقية هي ما أبحث عنه أنا كقارئ، أما القيمة الجمالية، فلا بد أنها وكما هو معلوم، تتحقق حين تسْلٓم هذه الوصفات الإبداعية من النقائص. بينما يشبه كاتبنا ذلك الراهب والساحر والكيمائي، الذي أكبر ما يخشاه الخطأ.. قام ليفصل في واقعة صراع الحضارات وتنافسها من أجل استقطاب القلوب، مضاعفا رمزية نصه القصصي السردي، ملمحا أن تسابقا من هذا النوع، شبيه بما يحدث خلال الحملات الحزبية الانتحابية، وما يدور في كواليس السياسة العالمية، وما تنتج عن تلك الجلسات من قوانين ومعاهدات، حول حقوق الإنسان، التي تحولت هنا إلى حقوق القطط، وفرائض الطاعة والولاء للقوى العظمى، من خلال استغلال الكاتب لتقنية الرمز، مستعينا بحيوان القط.. كيف ذلك؟
في النسخة المصغرة، أو الجوهرة، لبؤرة النص السردي، ثمة شابة جميلة اسمها “فيكتوريا” تريد الحصول على قلب حبيبها “كليمان’ والخلطة العجيبة هنا تتجلى، أنها ابنة المبشر “مارشينا جليبر” نفسه.. لكنها تعامل والدها بالتعاطف فقط، نفس التعاطف هو ما أدت إليه فكرة التعاطف مع صلب المسيح، مما يؤكد انتباه الكاتب الشديد لحساسيات علاقات شخوصه ببعضهم، ونتائج ما يفكرون وما يشعرون به، وفي ذلك رمزية لرسالة النص القصصي ككل، والذي يصب في فكرة انقلاب السحر على الساحر. ففي المقابل ترى “فيكتوريا” أن الجدة “كاجوليا” قديسة، وذلك بسبب قدرتها على الإتيان بالخوارق، بمعنى أن الكاتب لم يغفل أن أكبر برهان تطالب به القلوب للإيمان، هو حدوث المعجزات، سواء كانت بفعل إلهي، أو بكيد ساحر، يقول الكاتب :
( كانت فيكتوريا ترى أن الجدة كاجوليا قديسة بمعنى الكلمة، من خلال توالي أحداث الخوارق اللانهائية. ففي المرة الأخيرة، على سبيل الوله المبطن، طفق العسل يسيل بين أصابعها وهي تدمدم دمدمات يقف لها شعر الرأس، ويحس المستمع أنه أضحى أداة من أدوات الجدة كاجوليا تقلبه كيف تشاء ).
عند هذا الحد، تكون الأمور قد خرجت من تحت سيطرة القيسس فعلا. والذي يسعى جاهدا لاعادة الاعتبار للديانة المسيحية في الشرق الأقصى، مغلفا باللطف والتسامح، هنا سوف نلاحظ، أن الأب ” ماريشنا جيلببر ” لم ينتبه لما يخطط له الساحر الأكبر هشام ناجح، وهو يخبرنا أن الجدة متأثرة بالطقوس الوثنية، ولذلك أوحت لفكتوريا أن تعتمد على السحر للحصول على كامل محبة معشوقها “كليمان”، مؤكدة أن الرجل غريم المرأة وليس حبيبها، وأن حقها في محبته يؤخذ بالقوة، ثم قدمت “فيكتوريا” الخلطة السحرية بالأرز لحبيبها، لكي لا يقول بعد ذلك سوى كلمة نعم، دون إردة حرة. تلك الخلطة لها ما يقابلها في ثقافتنا الشعبية، تحت ما يسمى بعمل القبول، أو ( سحر جلب الحبيب ) لكن الساحر الأكبر السارد، ليس مشعوذا، إنه كاتب، صاحب رسالة أخلاقية، مبدع فنان ومن السخف أن يقترح نظرياته مباشرة، لذلك سوف يلجأ للطرافة وهي أهم إحدى مكونات الأدب البالغ الأثر والاستحواذ على قلوب القراء، وذلك باعتماده حبكة سردية سحرية، ما دام سوق الأدب يعرف منافسة شرسة، لتحقيق هذا الغرض، منافسة أشبه بما يفعله المبشرون والدعاة والرقاة والسحرة المشعوذون في بعض المواطن.
نعم، سوف يقع القارىء تحت تأثير هذا الخطاب الإبداعي، فيجده غامضا، وكلما وجد الغموض أحب الغامض أكثر، تصديقا لما يروج له خطباء التنمية الذاتية، وصناع محتوى فيديوهات اليوتيوب، تحت عناوين طنانة، ( كيف تجعل المرأة تقع في حبك )، ( المرأة تحب الرجل الغامض )، وووو الكثير من تلك الإغراءات. كذلك الأمر، بالنسبة للشعب الذي يعجب بكل حزب سياسي يقترح عليه مخططات تنموية غامضة، ثم يصوت لمهندس هذا المستقبل الغامض بالأغلببة، بعدما يئس المواطن والقارئ على حد سواء، من الخطب والنصوص الواضحة، وبات يعتبرها نصوصا جوفاء، لكن ولأن الكاتب هشام ناجح، متمسك بقيمه الأخلاقية ومبادئ عقيدته الدينية، مؤمن أن الساحر لا يفلح حيث أتى، سوف تصاب الساحرة بلعنة مؤبدة ، حين يطعم حبيبها الأرز الملغم سحرا، للقطط الجائعة الشبيهة بالمواطنين الفقراء الذين لا يملكون أيام الحملات الانتخابية من آليات الوعي السياسي للمطالبة بحقوقهم سوى المواء.
ما لا يسمح به هشام ناجح، في معمله السردي، هو أن يكرر الكاتب نفس خطيئة المشعوذ، والسياسي الماكر، والقسيس الذي يرتدي مسوح التعاطف، والداعية المأجور ، ليس بمعنى مأجورا عند الله، لأن أجرا من هذا النوع حسب اعتقادي الشخصي، لن يفوز به وسط هذه الفوضى العارمة من أشكال الخطاب، والرغبة في السيطرة على العقول والقلوب، كحال نصوص أديية لا تقدم لقرائها غير زخرف القول. الأجر والاعتراف بالأبطال الحقيقين، العلماء والمفكرين والأدباء الكيار بحق، مكفول بكل ما شهدت به الوقائع التاريخية. حتى وهم يموتون في فقر شديد، أو يعدمون بأمر من محاكم التفتيش، صدقهم في النهاية هو ما يرد لهم الاعتبار أديبا كان الصادق أو رجل دين أو مصلح اجتماعي، سوف ينصفه الزمن ولو بعد حين، بيتما تظل الشعوب هي المستهدفة من كل هذا خيرا كان أم شرا، تلك الشعوب التي تشبه القطط في كثير من صفاتها، فهي لا تفتك إلا بمن هم دونها مثل الفئران والحشرات، ولا تقتات إلا على الفتات، وحين تجوع تأكل لحم سيدها.
عزيزي القارئ.. هل فهمت الحكاية؟ هل لمست المعنى والقصد؟ ولماذا قلت في البداية أن الكاتب هشام ناجح مختلف عن غيره؟ فهو كما ترى يحاول أن يصيد عشرة عصافير بحجر واحد.
دعني أسألك، هل أغراك يوما كتاب أسطوري الشكل؟ وبعد وقوعك تحت تأثير جاذبيته الظاهرة، هل جربت التوغل في بواطنه؟ إن لم تكن قد فعلت ذلك، فهذه فرصتك لكي تجرب الدخول في متاهة سردية خرافية مدهشة، وإن كنت قد فعلت، فهذه فرصتك الثانية، لكي تعاود التجربة مرة أخرى.
تخيل معي أول غلاف لكتاب كليلة ودمنة كنت قد رأيته أو قرأته أو لمسته، استحضر في ذهنك صورة ذلك الأسد المنقض على بقرة برية، مرسوم بشكل أقرب للزخرفة القديمة، ثم تخيل ذلك الصيد معادلا لأزلية التواجد على هذه الأرض. فكر أن من قلب فكرة الصيد، تولدت فكرة الحكمة، ونوقشت موازين صراع القوى، وغلبة الطبيعة، لطفها وغضبها، ثم تذكر أهمية الحيلة والدهاء، فكر في السرعة التي تتم يها عملية الصيد، وتصاعد الأنفاس وهبوطها في حال التربص، والتخطيط المسبق، وإعداد الأفخاخ وكتم الأنفاس، وجاهزية الرمح أو السهم المتأهب بين طرفي القوس، فكر في النمر الصياد وهو يتشمم رائحة كبد فريسته، ثم وهو يخضع رائحة الدم لمختبرات التحليل والإدراك. تخيل هذا كله، وأجب نفسك بنفسك، إلى أين يسير بنا هذا العالم الأحمق؟.
تصور حال تلك العاشقة التي تمارس السحر على معشوقها لكي تستحوذ على قلبه، سواء كان السحر أسودا أم ورديا مثل أصناف الدلال والوعود، واعتبر ذلك نوعا من الصيد، وكيف تبدو تلك العاشقة رخيصة بلا قلب. ثم اعترف أنها لن تكون أقل درجة من ذلك الرجل المحتال المخادع، الذي يمارس كل أنواع السحر والإغواء اللغوي والمادي والجسدي والسلوكي على الأنثى، لكي يستعبدها ويسيطر على قلبها، لكن غاياته مصالح أخطر. رجل كهذا.. أنى له أن يعرف حقيقة الحب؟ من يقبل بمحبة حبيب واقع تحت سحر الحاجة، أو الخداع أو التملك الشيطاني. أشيه ب ( النكيروفلي ) الذي يمارس الجنس مع الجثث. ولأن الواقعة تتعلق بالسحر، فالأكيد أن السحر لا بد أن ينقلب يوما على الساحر. فتصبح الساحرة معشوقة القطط، ثم يطرد السكان الأصليون من مدنهم ويعمرها القطط، فتعلن القطط قوانينها الخاصة والتي مهما بدت عادلة، لن ترقى أبدا إلى قوانين الانسانية الحقيقية. تماما كما حدث قي رائعة : القصة القصيرة، للكاتب هشام ناجح ( مملكة القطط ) هذه التحفة السردية التي أضيفت لسجل القصة القصيرة العربية المعاصرة. وكم يشرفني أن أشهد لها بذلك. وأشهد أكثر أنها قصة حققت كل شروط الإبداع والإمتاع.




